تحميل تحضير نص بين الاباء والابناء
نص بين الآباء والأبناء
أنهَيتُ الصّاة باستعجالٍ، وركَضتُ نحو شُرفة منزلي المُطِلَّةِ على باب العِمارة، وبعد لحظةٍ قصيرة رأيتُ ولَدي الشّابَّ خارِجًا مُندَفِعًا في اتّجاه الشّارع… فناديتُهُ بِلهجةٍ حاسمةٍ، طالِبًا منه العودة حالاً، وبِسُرعة..!
ويبدو أنّه قطَعَ سالِم الطّوابِق الثّلاثة بخطوات قليلة عملاقة؛ حيث تفاجأتُ به بعد لحظةٍ خاطِفة، واقِفًا أمامي وهو يلهَثُ، ويسألُني: ماذا تُريد؟
أمسَكتُ بيده وجررته نحو قاعة الجلوس، وكان جهاز التلفاز داخلها يملأ الأجواء بضجيجه. قلتُ له: أنتَ فتحتَه! فلماذا لم تُغلِقْهُ وأنت تغادر المنزل؟ أغلِقْهُ الآنَ! فأغلَقَهُ وهو يقول: كنتُ أظنّك ستأتي لمشاهدته! ثم سحبتُه مِن يده إلى غرفة نومه، وكانت مصابيحها الكهربائيّة الثلاثة مُضاءةً، فسألتُه: وهذه الأضواء، لماذا لم تُطفِئْها وأنت تخرُج مِن غرفتك. أم هل كنتَ تظنُّني سآتي لِمشاهدتها والتّمتُّع بأنوارها؟ فأطفأها بصمتٍ.
وعرّجتُ به نحو حنفيّة الحمّام وكان ينسابُ منها خيطٌ رقيقٌ متواصلٌ من الماء..! وهذه لماذا لم تُحكِمْ إغلاقها جيّدًا؟ أم أنّ ذلك فوق طاقتك؟! أجابنَي بنبرةٍ تدُلُّ على نفاد صبره: إنّك يا أبي دائمًا لا تهتمُّ إلا بالأمور البسيطة التّافهة، وقد أضَعتَ لي الآن موعدًا هامًّا كنتُ مرتبِطًا به.
وتركَني، وانصرَفَ مُسرِعًا غاضِبًا. مباشرةً جلستُ على أقرب مقعد، وفتحتُ حوارًا مع ذاتي:– ممّا لا ريب فيه أنّ أغلب الآباء أمثالي غير راضين تمامًا عن أبنائهم الشّباب في سلوكهم وتصرُّفاتهم ونوعيّة أذواقهم، فهل يعني ذلك أنّ جيلنا كان في شخصيّته وإنجازاته أعظم مِن جيل الأبناء؟
أرى أنّ هناك اختلافًا واضحًا بين الجيلين تفرضه طبيعة الحياة وتغيّرات الزّمن، فالجيل الأوّل يكاد يكون -بأغلب أفراده- قد عاشَ محرومًا من التّمتُّع بأفياء طفولته، ومراتِع مراهقته.
بينما جيل الستّينيّات فإنّه قد توفَّرَتْ لديه الكثير من الإمكانات المادّيّة والنّفسيّة التي ساعدَت الطّفل على الإحساس بطفولته، وهيّأَتْ للمراهق جوّ مراهقته، خاصّةً من طرف الوالدين والأولياء؛ بالإضافة إلى ما وفَّرَتهُ السُّلُطاتُ الوطنيّة مِن متطلّبات التعليم والتّكوين والرّعاية الصّحّيّة ووسائل التّرفيه.
]بلقاسم خمّار. حوارٌ مع الذّات. ص 25 [