عبارة عن مرور لا حديث في فرنسا وفي الكثير من بلاد العالم هذه الأيام، إلا عن لاعب كرة بدأ صغيرا ووصل بسرعة إلى القمة العالمية، ولعب مع ريال مدريد وهو النادي الكبير والأغنى في العالم، الذي لم يسبق وأن لعب له لاعب عربي أو إفريقي مع استثناءات قليلة كانت عبارة عن مرور الكرام.
كريم هنا وبن زيمة هناك، لا يمكن أن تفتح جريدة أو تلقي بنظرك على أي موقع كبير في العالم أو تتابع فضائية فرنسية إلا ومر من أمامك كريم، الذي لم يصبح قضية كروية أو رياضية فقط، بل دخل عالم السياسة والمجتمع وحتى الموضة، ولكن للأسف في الاتجاه السلبي، حتى أن أحد أفراد عائلة كريم عندما سألوه عن ابن عمه، قال بأنه ليس له ما يقول، فعلى الجميع والسائل بالخصوص، تتبع أخبار داعش، لأنها ستكون متبوعة بالحديث عن كريم بن زيمة، الفتى الجزائري الأصل الذي أراد أن يكون فرنسيا بالقوة، فما بلغ مبتغاه الفرنسي، ولا يستطيع طبعا بعد كل الذي حدث، أن يصبح جزائريا، وحالته الآن لا تختلف عن « البيدون » الذين يعيشون في الكويت من دون جنسية، بعد أن أصبح منبوذا من كل الفرنسيين بدليل سبر الآراء الأخير الذي كان بمثابة رصاصة رحمة في صدر كريم بن زيمة الذي رفضه القضاء ورفضه رئيس الحكومة ورفضه الآن كل الشعب الفرنسي من خلال ردوده وأيضا من خلال سبر للآراء الذي أجرته قنوات « آر.آم.سي » الفرنسية، ولن يتوقف الفرنسيون عند هذا الحد، فقد فعلوا ما يستطيعون، مستغلين تعاطف العالم معهم منذ أن هزتهم تفجيرات باريس في الجمعة 13 من الشهر الماضي، لأجل نقل رأيهم وقراراتهم الصارمة وأحيانا الجائرة، في حق بن زيمة إلى أوروبا حتى لا يجد الفتى من يحتضنه في كل بقاع العالم، بالرغم من أنه لحد الآن مجرّد متهم لا أحد استطاع إثبات تهمته في قضية الابتزاز الذي تعرض لها صديقه في المنتخب الفرنسي ولاعب ليون فالبوينا الذي أغرقه بتصريحاته الأخيرة وبدا عدوا له وكان يظنه اقرب الناس إليه، فصار حلم الفرنسيين الآن هو أن ينتهي كريم في السجن وتنتهي حكايته للأبد مع فرنسا التي تقول بأنها هي من كوّنته، ولكنه عضّ يدها فحان الوقت لمعاقبته.
اتهمته زهية فكتبت عنه كل الصحف
وبرأته المحكمة فلم يكتب عنه أحد
لقد صنع زين الدين زيدان أمجاد الكرة الفرنسية، وقادها لإحراز لقبها العالمي الوحيد وقد يبقى وحيدا مدى الحياة، وبدأ الحديث عن المغتربين الذين قدّموا المجد لفرنسا وأخرجوها إلى الشارع، عندما تمكن زيدان الجزائري الأصل من أن يجعل فرنسا تعيش أياما بلا ليال فرحا ورقصا، ثم أوصلها للفوز بكأس أوربا للأمم خارج أرضها في إيطاليا لأول مرة، وقد تكون آخر مرة أيضا في الحياة، وقادها مرة ثالثة لبلوغ نهائي كأس العالم خارج الديار الفرنسية لأول مرة عام 2006 في ألمانيا، وبالتأكيد لآخر مرة أيضا خارج الديار، وبدأ الحديث عن خليفة هذا الأسطورة من نفس الأصول إما سمير ناصري القسنطيني الأصل أو بن يزمة الوهراني الأصل، فكان لزاما التحرك لأجل نسف هذا المسعى، فتمكن الإعلام من سمير ناصري الفتى المغترب، الذي يختلف عن كريم في كونه من والدين من مواليد فرنسا، وجدّه فقط من مواليد قسنطينة، وأعلن اللاعب صراحة عن انتمائه للجزائر، بل وأشار في عدة مناسبات عن ندمه في اللعب للمنتخب الفرنسي، وفي مقابلة في الدوري الانجليزي في عيد الفطر لعام 2012 عندما سجل هدفا أبان عن قميص يقدم من خلاله التبريكات لكل مسلمي العالم، وهي اللقطة التي جعلت ناصري بالرغم من أنه قاد مانشيستر سيتي، لإحراز لقب الدوري الانجليزي الممتاز، خارج منتخب الديكة، الذي لم يحقق أي إنجاز في الفترة الأخيرة، بدليل خروجه من الدور الأول في كأس العالم بجنوب إفريقيا، وتمنت منتخبات عالمية كثيرة لو استفادت من ناصري، الذي مازال في ربيعه الثامن والعشرين فقط، ولا أمل له في العودة لمنتخب الديكة ولو اختار المنتخب الجزائري لشارك في المونديالين السابقين، وبإمكانه المشاركة في مونديال آخر على الأقل في روسيا، حيث سيبلغ الواحدة والثلاثين من العمر فقط، ولأن ناصري اختار بنفسه الانسحاب من المنتخب الفرنسي، بقيت مشكلة فرنسا الأولى هي كريم بن زيمة، فالفتى يتألق مع ريال مدريد وفاز معه برابطة أبطال أوروبا، ويلعب إلى جانب كبار العالم، وفرنسا على بعد ستة أشهر فقط عن كأس أمم أوربا التي ستحتضن فعالياتها، وقد يتحقق الفوز بأقدام كريم ويتحول إلى زيدان جديد، لا حديث في فرنسا إلا عن كريم، وهي أسماء صارت تثير الحساسية لدى الفرنسيين، فبدأت القصة أو ما يمكن وصفها بالمؤامرة منذ سنوات طويلة، فقد تم اتهام كريم بن زيمة في قضية تعود إلى شهر ماي من عام 2008 عندما كان في سن الواحدة والعشرين رفقة زميلة فرانك ريبيري المتزوج من جزائرية تدعى وهيبة، في قضية دعارة مع صبية دون البلوغ هي زهية دهار الجزائرية الأصل، وانقلبت فرنسا رأسا على عقب، فقرر فرانك ريبيري مغادرة فرنسا للأبد فاستقر في ألمانيا مع النادي البفاري، ثم قرّر تطليق المنتخب الفرنسي بالثلاث وصارت تصريحاته تبين مدى كرهه للصحافة الفرنسية بدليل رفضه الحديث معها باللغة الفرنسية، وقال في تصريحات لبيلد الألمانية بأنه يفضل أن يعلّم أبناءه اللغة الألمانية، وسيتجنس بالألمانية ويودع فرنسا للأبد، وحتى لو صار أبناءه الذين يحملون أسماء عربية من نجوم الكرة، فلن يتركهم يلعبون لفرنسا، لأن العدالة الفرنسية منحته البراءة الكاملة في قضية زهية رفقة زميلة بن زيمة، ولكن لا أحد تحدث عنها، بل إن كريم في أزمته الأخيرة صار البعض يتحدث عن تهمته مع زهية من دون التحدث عن براءته فيها، وهي القضية التي أدينت فيها زهية بالوشاية الكاذبة، وحتى ملهى زمان الذي تشتغل فيه هاته العاهر التي ولدت عام 1992 في منطقة غريس بالجزائر، تمت معاقبته، والقضية صنعت الحدث الإعلامي في عام 2011 عندما فجرتها زهية وقالت بأنها تقاضت 500 أورو من اللاعبين نظير ممارسة الجنس معهما، وهي دون السابعة عشرة من العمر، ومازال صداها إلى غاية مشارف 2016 بالرغم من أن العدالة الفرنسية، أغلقت ملفها ومنحت البراءة الكاملة لبن زيمة وريبيري، واتضح بأن زهية كانت تريد الشهرة بجرّ مشاهير الكرة، وهو ما تحقق لها، حيث افتتحت صالونات متعددة للألبسة الداخلية، وكما جاءت من الجزائر وحيدة، بقيت وحيدة في فرنسا ولكنها علامة سوداء في حكاية كريم بن زيمة.
كريم من عائلة غنية ومتديّنة
منذ أكثر من 15 سنة، عندما كان كريم بن زيمة صبيا أنهى والده عبد الحفيظ بن زيمة، بناء واحدة من أفخر فيلات مدينة ليون الفرنسية، فتربى كريم الطفل في عائلة ثرية ومتدينة أيضا، تحافظ على التقاليد الجزائرية التي هي مزيج بين منطقة القبائل ومدينة وهران التي يزورها والده حفيظ بين الحين والآخر، ومنها انتقل لأداء فريضة الحج منذ بضعة سنوات، وبالرغم من أن الفرنسيين يؤكدون بأن كريم يطلق لحيته تشبها بالإسلاميين وسموه في تعليقاتهم بالأخ الثالث لعائلة كواشي، إلا أن كريم قال بأنه قبل كل مباراة يقرأ القرآن الكريم، ويدعو الله بالتوفيق، كما تابعت الصحافة القطرية خلال تبرص صغير أجراه النادي الملكي في الدوحة بأن كريم كان كثير التردد على مسجد الدوحة الكبير عمر الفاروق، الذي كان يؤم فيه الشيخ القرضاوي الناس للصلاة.
وقد هجرت عائلة كريم الجزائر في عام 1959، أي أن والده حفيظ ووالدته وهيبة من موالد الجزائر، لأجل ذلك أطلقوا على أبنائهما السبعة من بنات وذكور، أسماء جزائرية بين أمازيغي وعربي من لعتيسية وغريسي إلى فريد وكريم، وحتى أصدقاء طفولة كريم إلى أن غادر نادي ليون الفرنسي، نحو مدريد كانوا جميعا من المغتربين وأهمهم كريم زناني، وكان كريم يضحك دائما وهو يقول بأن 90 بالمائة من أصدقاء طفولته أسماءهم مثل اسمه كريم.
عالم النجومية مع ريال مدريد الذي يضم كريستيانو رونالدو وضم بيكام وغيرهما غيّر الكثير من طباع اللاعب، الذي سيحتفل في التاسع عشر من الشهر الحالي ديسمبر بعيد ميلاده الثامن والعشرين، وحتى الوعد الذي قطعه على نفسه بزيارة الجزائر تبخر، وقد لا يتحقق، لو زار ريال مدريد الجزائر قريبا، لأن حديثا قويا صار يدور حول تخلي ريال مدريد عنه، ولن يجد سوى بريطانيا التي احتضنت سمير ناصري، قبل أن يضيع في مرسيليا وتحتضن بريطانيا حاليا نجوما جزائرية وعلى رأسها رياض محرز ونبيل بن طالب وعدلان قديورة. ويبدو كريم بالرغم من أنه في سن الكرة والنضوج في وضعية كروية صعبة بسبب لعنة الفضائح، التي وجد نفسه فيها بين ما تورّط فيها وما تم توريطه فيها، لأن أصعب ما في الوجود هو أن يجد الإنسان نفسه بلا وطن، كما هو حال كريم بن زيمة حاليا.
« لا مارساييز » .. خط أحمر
بصاق بن زيمة وصمت زيدان
وحده سمير ناصري في بعض المباريات التي لعبها بألوان المنتخب الفرنسي من كان يقرأ النشيد الوطني الفرنسي، إضافة إلى بعض اللاعبين من أصول مغاربية مثل التونسيين صبري لموشي وحاتم بن عرفة، والمغربي عادل رامي، أما كريم فقد كان يقف أمام صديقه فرانك ريبيري ولا يرددان سويا النشيد الفرنسي، في الوقت الذي ينفجر ملعب فرنسا بالنشيد الفرنسي الشهير بموسيقاه وبكلماته التي تعود إلى عهد نابليون بونابرت، وكان والد بن زيمة، عندما قاد كريم الديكة للتأهل لمونديال البرازيل، قد وصفه بنابليون الجديد، وهو التصريح الذي أثار سخرية الفرنسيين فذكروه بأن كريم ليس فرنسيا حتى ولو أراد، وحتى لو بقيت عائلته بدل السنوات، عشرات القرون في فرنسا، ولكن في الكلاسيكو تمكن الإعلام الفرنسي، من تحويل لقطة التقطتها الكاميرات إلى حدث بأبعاد تاريخية واجتماعية وسياسية، لم يسبق لها مثيل، فقد تابع مباراة الكلاسيكو الأخيرة بين ريال مدريد وبرشلونة، أكثر من مليار نسمة، وكانت بدايتها تضامنية مع فرنسا التي تعرضت لهجمات إرهابية أودت بحياة أكثر من 130 شخص، حيث رُفع علم كبير لفرنسا، ووقف اللاعبون وهم الأغلى والأحسن على وجه الأرض للنشيد الفرنسي، ولم يحرّك كريم بن زيمة على مدار عزف النشيد الفرنسي شفتيه، وبمجرد أن انتهى العزف استخرج بن زيمة كل اللعاب الذي في أعماقه وبصق بعد أن نظر يمينا ويسارا، وهو البصاق الذي تحوّل إلى أشهر لعاب في العالم أغرق فرنسا، في بحر من الحبر وحتى الدموع، ولم تمض سوى بضعة أيام حتى خرج الوزير الأول الفرنسي وهو إسباني الأصل السيد فالس عن عالم السياسة وأقحم نفسه، عبر تصريح لإذاعة فرنسية شهيرة، عندما قال بأن أي وزير في حكومته يتورط في قضية ابتزاز، كما حدث لبن زيمة سيطرده حالا، كلام أذهل العالم، لأن كريم مازال مجرد متهم، وليس مذنبا حسب القانون الفرنسي، ليتم الإعلان بعد ذلك عن نتائج سبر آراء فرنسي أبان بأن 82 بالمائة من الفرنسيين لا يريدون أن يروا بن زيمة في المنتخب الفرنسي، ولم يتعاطف معه سوى 18 بالمائة، وجميعهم من الأجانب، وكان غالبية الرافضين لبن زيمة من الذين تجاوز سنهم الـ65 سنة، مما يعني بأن في الأمر الكثير من العنصرية، ورفض الآخر، لتعود فرنسا إلى السنوات السابقة كدولة ترفض الآخر عكس بريطانيا والولايات المتحدة، والجنسية مجرد وثيقة يبدو أن فرنسا التي أقرتها وأمضتها لا تعترف بها، والفرنسيون سيقولون صراحة بأنهم يرفضون بن زيمة ليس بسبب قضية البصاق أو الابتزاز وإنما لأنه جزائري الأصل.
من سحنون إلى كريم
موسم العودة للأصل
أول جزائري الأصل اختار اللعب لمنتخب فرنسا هو اللاعب سحنون في سبعينيات القرن الماضي، ولكن عندما حان موعد، كأس العالم في الأرجنتين عام 1978 تم الاستغناء عنه، وبعد بضعة أشهر من المونديال، الذي خرجت فيه فرنسا من الدور الأول تعرض لحادث مرور مميت، فلا أحد ترحّم عليه سوى عائلته، ولكن زين الدين زيدان كسر الطابو في زمن العشرية السوداء، واختفاء المنتخب الجزائري، عن الأضواء، وصار اللاعب زين الدين زيدان نموذجا وقوبلت خياراته بالتهليل، وجاء نجاحه ليفتح شهية اللعب للديكة وبلوغ العالمية، لأن زيدان لو اختار اللعب للجزائر، ما حاز كأس العالم، وما لعب لريال مدريد.. هكذا قال الذين اختاروا فرنسا، ولكنهم الآن سيقولون بأن كريم بن زيمة لو اختار اللعب للجزائر ما حدثت له كل هاته الفضائح التي تتبعه من مكان لآخر، وأكيد أنه سليعب لفرق كبيرة كما هو حاصل مع بن طالب وفيغولي وغلام الذين اختاروا الجزائر ولم ولن يندموا.
وتبدو الأحداث المتسارعة التي وقعت للنجم كريم بن زيمة أنها ستغير من خارطة الاختيار، لأن سمير ناصري وصل إلى قمة الفرق الإنجليزية ورفضته فرنسا، وكريم بن زيمة حقق إنجازا لم يحققه إلا النادر من الفرنسيين على مدار التاريخ ورفضته فرنسا، فما بالك بلاعبين ينشطون في أندية صغيرة، فأكيد بأن مصيرهم سيكون أسوأ من سمير وكريم، وهي فرصة أخرى للعودة للأصل، لأن غالبية المهاجرين في فرنسا، والذين يقفون أمام طابور طلب الجنسية الفرنسية، شعروا في تفجيرات باريس وفي قضية بن زيمة بأن ما قاله الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ ثمانين سنة هو الحق: « الجزائري ليس فرنسا ولا يمكنه أن يكون فرنسا حتى ولو أراد فعل ذلك »؟
ناصر بن عيسى.
