يقع حي سيدي يحيى الشهير، بمنحدر على الجهة الجنوبية لحيدرة يمتد من برادو شمالا إلى غاية المدخل الجنوبي لبئر مراد رايس ، ليس بعيدا عن الشارع المؤدي إلى سفارة العراق ورومانيا والسودان ،لم يكن يعتقد الكثيرون أن هذه « الشعبة » الجافة او مجرى مياه كانت تصب في وادي كنيس ستتحول في زمن قياسي إلى شريان ابهر للعاصمة يضخ فيها الحياة ويجعل قلبها يخفق بالسياسة والموضة والمال كأنه قطعة من شوارع باريس ،وأضواؤه ليلا تشبه لا س فيغاس او « بيفرلي هيلز ».
لقد تحول هذا الممر البسيط في زمن قياسي إلى ما يشبه « مركزا للأعمال « مفتوح على الهواء الطلق ، فظاهره تجارة ورفاهية وماركات عالمية وباطنه سياسة وقرارات وصفقات ووساطات كبرى ، هنا وعلى هذه الطاولات الجميلة يجلس كبار المسؤولين يتناقشون ويتشاورون في قضايا حساسة قبل أن يتوجهوا إلى المكاتب لإمضاء القرارات على الورق .
سيدي يحي أيضا إيقونة العاصمة ورمز للرفاهية والبذخ ورمز للطبقية فمن يقصد محلاته او مقاهيه ليس هين الدخل ولا محدود الراتب لان الجلوس على ابسط مقهى يكلف الكثير من المال ،لكن الناس هنا يدفعون دون نقاش ويمنحون « البقشيش » بسخاء حتى المتسولون فيه يتسولون « بالفرنسية » وبلباقة .
المقبرة المنسية تحولت إلى « لاس فيغاس »
زرنا سيدي يحي عند الساعة السابعة مساء ، كل المرائب مشغولة ،فالسيارات الفارهة التي لا نعرف أسماءها ،لها مكانها هناك ،فيما اكتظت حافتي الطريق الواسع بمئات المركبات الأخرى فلا تكاد تجد مكان لركن سيارتك إلا بشق الأنفس ، الأضواء تلالا كأنها نجوم ،أضواء المحلات وأسماء الماركات العالمية تناطح السماء، أزياء راقية لفحتنا أسعارها الخيالية ،فكيف لقطعة ثياب بسيطة أن تتجاوز ثلاثة ملايين، وابسط حذاء يفوق المليوني سنتيم ،أما مساحيق التجميل من « فوريفر ما يك اب » فلا مجال للسؤال كأننا نتسوق بين علامات شانيل ولوريال وايف سان لورانت .
لكن كيف ومتى تحول هذا الوادي الذي كان في الأصل مقبرة قديمة إلى أرقى شوارع العاصمة وكيف تفوق على قاعات الهيلتون والشيراتون وسان جورج ، فالأجانب بمجرد وصولهم للعاصمة يسالون عن » سيدي يايا » ،ألمان فرنسيون ايطاليون وصينيون وأمريكيون يتجولون فيه بكل أمان ، صحيح أن مدينة حيدرة التي تحتضن سفارات العالم منها سفارة أمريكا ، في الأصل من أرقى المدن وأقدمها لكنها مشبعة في المقابل بالأحياء الفقيرة والشعبية ، فكيف تحولت قطعة مهجورة منها في ظرف قياسي إلى شعلة تجارية امتد صيتها حتى حدود أوروبا.
أصل المكان حسب السكان هو مقبرة قديمة تتوسطها قبة ضريح الولي الصالح سيدي يحي أعلى الهضبة ، لا تكاد تظهر للعيان من أسفل المنحدر نظرا لشموخ المباني حولها ، اختلفت الروايات عن أصل سيدي يحي فالبعض يقول انه كان خارق القوة يستطيع أن يشفي الأسقام كالجنون والفصام والعقم والبعض يقول انه عالم جليل وزاهد في الدين ينحدر من مدينة ازفون بولاية تيزي وزو وله خمسة إخوة انتشروا في أصقاع الجزائر، ويقول احد أحفاده ويدعى « صالح عبد الرحمان » ان عرش سيدي يحي انتقل من ازفون إلى « تيمليحت بايعيكوران « .
لكن أصل المنطقة اليوم لم يعد يتذكره احد، وارتبط اسم سيدي يحي فقط بهذا الوهج التجاري الذي بدا مع إنشاء أول مركز تجاري فيه ويدعى »زمزم »ليمتد شمالا إلى حيدرة وجنوبا إلى بئر مراد رايس ، هذا المكان الذي كنا نسلكه مطلع التسعينيات كان ممرا موحشا معزولا وغريبا، إلى درجة أن سكان الأحياء الشعبية في الحراش وباب الوادي رفضوا سكنات اجتماعية منحت لهم في ضواحيه وكانوا يشبهونه آنذاك بالمنفى.
لكن رجال المال والأعمال دائما كانوا يبحثون عن نقطة جديدة لإشعاع تجاري قوى، فلفت انتباههم منطقة سيدي يحي فبدؤوا بشراء عقارات كانت في الأصل مساحات خضراء ومنحدرات وشعاب يهيئونها ،ويبنون محلات ومراكز تجارية ومقاهي بمواصفات راقية ويعرضونها بصورة أكثر جاذبية ، رغم أن الشارع لا يحمل المواصفات العالمية فهو لا يتعدى عرضه 45 مترا إلا أن رونقه خطف الأضواء من كبرى شوارع العاصمة القديمة كشارع ديدوش مراد والعربي بن مهيدي .
فمن يقطن اليوم سيدي يحي فهو برجوازي ،ارستقراطي حتى وان كان يسكن شقة « سوسيال »كما ان الكثير بعد التهاب العقار باعوا مساكنهم بالملايير ورحلوا الى مناطق أخرى ،في حين بلغ إيجار الشقة من 15 الى 20 مليون سنتيم أما المحلات التجارية فبلغت الستين مليون شهريا.
» مانغو ، تاتو وجينيفر .والسعوديون ….من يشتري؟
قدوما من أعالي حيدرة ،تراصت المحلات التجارية الكبرى بواجهات شفافة تحسبها فضاء دون حاجز ،مقاهي ومحلات شاي « معلقة »، يلفت انتباهك المركز التجاري الدولي « مانغو”وهو عبارة عن استثمار خاص يشترك فيه العديد من الأجانب من جنسيات كندية ،اسبانية ، ايطالية ،ومقارنة مع باقي المحلات ف »مونغو »يعد أغلى المحلات على الإطلاق يدخله الكثيرون من هواة الموضة، لكن لا يشتري منه سوى أصحاب « الشكارة » لان الأسعار « فلكية » فربطة العنق مثلا تصل 25 ألف دينار وسروال الجينز يفوق المليوني سنتيم أما الأحذية فلا اثر لحذاء اقل من 36 ألف دينار إلى غاية 60 ألف دينار ومن شدة دهشتنا في الأسعار طلبنا من البائعة أن تقرا لنا الثمن وهي تبتسم ومتفهمة …. ،
دائما في مركز مونغو لمحنا شابات حسناوات جميلات جدا بملابس أنيقة ويتسلل منهن عطرا فاخرا ، تتبضعن بين محلاته منهن من تصطحب شيخا أو كهلا يكبرها في السن، يدفع فاتورة مشترياتها .
الألماس ممنوع الصور
شد انتباهنا أيضا محلا براقا ، تشع الأضواء منه كأنها قوس قزح ، كتب على الواجهة « ممنوع الصور » انه اغلي محل مجوهرات في الجزائر، يبيع قطعا نادرة من الألماس من شدة ندرتها وجمالها تبقى مشدود النظر ترفض عيناك وقدماك مغادرة الواجهة فمن يمر قرب المحل ينبهر بالتصاميم الدقيقة للبلاتين المرصعة بحبات الألماس النادرة ، لكن زبائن الألماس معروفين وهم الذين ستمسهم ضريبة الثروة على قول احد زوار المحل .
» الصفا والمروة » أيضا واحد من المراكز التجارية الأخرى الذي يعود لأحد المستثمرين السعوديين. بالقرب منه أقيم بنك « سوسييتي جينرال » كمؤسسة مالية كبيرة أعطت منطقة سيدي يحي روحا لضخ الأموال والتبادلات التجارية والصفقات وحولته باقي المصارف إلى شبه « امبراطورية » صغيرة نشأت وكبرت في لمح البصر، بعيدا عن أعين رقابة المال، ومن أين لك هذا ،فنمت التجارة وتدفق المال في سيدي يحي كما كان يتدفق الماء في مجرى الوادي سابقا إلى درجة ان البعض يقول بان أموال الجزائر مرت من هنا …..
الماركات العالمية ….اشتري الأصلي
على امتداد الشارع الرئيسي لسيدي يحي ، تخطف العلامات التجارية الأنظار ،عطور وساعات وألبسة فاخرة ،لها زبائنها من رجال المال الذين لا يشترون إلا من سيدي يحي فالعلامات أصلية وغير مقلدة كأنهم يقتنون قطعا ثمينة ،فالماركة لها ناسها ولها قيمتها المالية والاجتماعية والارستقراطية ، فعطور شانيل ،وإيف سانت لورانت ، وكاشارال ،وجيفانشي ، بيار كاردان ،حقيقية وأصلية كأنك تقتنيها من محلات باريس .كما أن ساعات سايكو وتيسو وسواتش لها عشاقها.
الحسناوات في رحلة صيد الأثرياء
جلسنا على طاولة مطعم ومقهى يمتد إلى الرصيف اسمه « دونينو » نسبة إلى نوع البيتزا الايطالية نترقب الخطوات المتسارعة ، جزائريون ، أجانب من كل الجنسيات يتوافدون على سيدي يحي ليلا ،ما عدا العائلات فلم نشاهد عائلة في مطعم سوى أزواج ،رجال ،فتيات حسناوات ،فائقات الجمال ، من بينهن فتاة جميلة وجدت راحتها في تدخين سيجارة مارلبورو أمام الملا دون حرج ،كانت تنتظر من يدعوها للعشاء أو يقاسمها طاولتها من الأثرياء ،فاغلب الفتيات يقصدن هذا الصرح التجاري لصيد الأثرياء ، يقول البعض أن أغلب من يأتي إلى سيدي يحي هم « النازحون الجدد »ويقصد بها القادمون من ولايات داخلية وأصحاب المال فهم يدفعون بسخاء لأي فتاة جميلة تقاسمهم طاولة عشاء وينعتونهم بصفات قبيحة ك » الشبارق »والكوافا »والبقارة »واصحاب « الشكارة «
بوقطاية ولد عباس، والآخرون …..
قرب مقهى دونينو الجميلة كان يلتفت يمينا وشمالا يرتدي بدلته الأنيقة « السوداء » ، يبحث عن جماعة ضاعت منه ، انه محمد الصادق بوقطاية الذي قصدنا وألقى علينا التحية رغم انه كان في عجلة من أمره ،وتجاذب معنا أطراف الحديث السياسي عن حزب جبهة التحرير الوطني وقال أن الأمور هدأت داخل الآفلان وكل شيء سيعود الى مجراه الطبيعي ،استأذن بكل احترام ليلتحق بجماعته ،وهم أعضاء في اللجنة المركزية والمكتب السياسي يترددون كل مساء على مقاهي ومطاعم سيدي يحي لأنها الأكثر أمنا والأرقى و تليق بمسؤولين ونواب ، وتبين لنا أن هذا الشارع هو شارع « سياسي » بامتياز يتردد عليه كبار السياسيين من بينهم ولد خليفة ،وولد عباس ،وعمارة بن يونس ،ووزراء سابقون ، وربما هم من أعطوا وزنا إضافيا لهذا المكان .
وهناك مقاهي ومطاعم فاخرة لا يدخلها سوى السياسيين ورجال الأعمال الذين يدفعون الملايين في عشاء عمل .
شارع النخبة الاجتماعية
توحي أجواء ومظاهر سيدي يحي بأنه شارع نخبوي من الناحية الاجتماعية وغربي من الناحية الثقافية،فكل اللافتات مكتوبة باللغة الفرنسية وحتى أسماؤها هي طبق الأصل عن أسماء لمحلات فرنسية وأمريكية ، كما أن اغلب زوار الشارع يتحدثون اللغة الفرنسية سليمة كانت أم عوجاء ،لكنهم لا يتحدثون العربية تقريبا ، لقد طغى شارع سيدي يحي على باقي الأحياء فأرداها شعبية اقل جاذبية واقل رقيا حتى باقي أحياء حيدرة والابيار ،وهي التي كانت بالأمس مقصد ا للمثقفين والأغنياء مما يدل على أن الشارع الذي في الأصل جاء تلقائيا وبشكل عفوي ودون تخطيط في بدايته تم احتواؤه من طرف أصحاب المشاريع التجارية بوضع لمسات خاصة ليست موجودة في باقي الأحياء في العاصمة،كما أن تلقائيته زادت من وهجه فبدا شارعا بسيطا ثم غدا قطبا تجاريا للطبقة الغنية والسياسية ، عكس باقي المراكز والأماكن التجارية التي انطلقت كبيرة ثم أنطفا صيتها ففي النهاية هي لعبة إنسان يستطيع أن يحول أشياء تافهة إلى ثراء والعكس مثل السلع والعقار .