من كتاب » كليلة ودمنة » لعبد الله بن المقفّع
الـــــــــــنصّ:
» قال دمنةُ لأخيه كليلةَ : » يا أخي ما شأنُ الأسدِ مقيمًا مكانه لا يبرحُ و لا ينشَطُ ؟ » . قال كليلةُ: ما « شأنُكَ أنتَ والمسألةَ عنْ هذا ؟ .نحن على بابِ مَلِكِنا آخِذينَ بما أحبَّ وتاركينَ لِما يكرَهُ .ولسنا من أهلِ المرْتَبةِ الّتي يتناول أهلُها كلامَ المُلوك والنّظرَ في أمورهم .فأَمْسِكْ عن هذا ، واعْلَمْ أنَّهُ منْ تَكَلَّفَ منَ القوْلِ والفِعْلِ ما ليْسَ منْ شأْنِهِ أصابَهُ ما أصابَ القردَ منَ النّجّارِ « .
قال دمنةُ : » وكيف كان ذلك؟ ».
قال كليلة: » زعمُوا أنَّ قرْدا رأى نجّارًا يشقُّ خشبَةً بين وَتدَيْنِ وهو راكبٌ عليها .فأعجبه ذلك .ثمّ إنّ النّجّارَ ذهب لبعض شأنه .فقام القردُ وتكلَّفَ ما ليس من شُغْلِهِ فركِبَ الخشبةَ وجعَل ظهْرَه قِبَلَ الوتدِ ووجهَهُ قِبَلَ الخَشَبَةِ فتدلّى ذَنَبُهُ في الشقِّ ونَزَعَ الوتدَ فَلَزَمَ الشقّ عليه فَخَرَّ مَغْشِيًا عليه .ثمّ إنّ النّجّارَ وافاُهُ فرآهُ على تلك الحالةِ فاقْبَلَ عليه يَضْرِبُهُ .فكان ما لَقِيَ من النَّجّار منَ الضّرْبِ أشدّ مِمّا أصابهُ منَ الخَشَبَةِ. »
قال دمنةُ: » قدْ سَمِعْتُ ما ذكرْتَ .وليس كلّ ُ منْ يدنو من المُلوك يقْدِرُ على صُحْبَتِهم ويفوزُ بِقُرْبهم .ولكنْ اِعْلَمْ أنّ كلَّ منْ يدنو منَ الملوكِ ليس يدنو منهم لِبَطْنِهِ وإنّما يدنو منهم لِيَسُرَّ الصّديقَ ويُكْبِتَ العَدُوَّ .وإنّ من النّاسِ منْ لا مُرُوءَةَ له .وهم الّذين يفرحون بالقليل ويرْضَوْنَ بالدّونِ كالكلب الّذي يُصيبُ عظماً يابسا فيفرَح به .وأمّا أهلُ الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليلُ ولا يرضوْن به دون أن تسْمُوَ به نفوسهم إلى ما هم أهْلٌ له وهو أيضا لهم أهلُ .كالأسد الّذي يفترس الأرنبَ فإذا رأى البعيرَ تركها وطلب البعيرَ .ألا ترى أنّ الكلب يُبَصْبِصُ بذَنَبِه حتّى ترميَ له الكِسْرةَ من الخبز فتُقْنعُه وتُرْضيَهُ منكَ وأنّ الفيل المُعْتَرَفَ بفضله وقوّته إذا قُدّمَ له عَلَفُهَ لا يَعْتَلِفَه حتّى يُمْسَحَ وجهُه ويُتَمَلَّقَ له.
فمن عاش ذا مال وكان ذا فضل وإفضال على أهله وإخوانه فهو وإنْ قَلَّ عُمُرُهُ طويل العمر.ومن كان في عيْشه ضِيقٌ وقلّة وإمساك على نفسه وذويه فالمقبور أحيى منه .ومن عمل لبطنه وقنِع وترك ما سوى ذلك عُدَّ من البهائم. »
فال كليلة: » قد عرَفتُ مقالتَك فراجعْ عقلَك واعلَم أنّ لكلّ إنسان منزلةً وقَدَرًا »
عبد اله بن المقفع ، كليلة ودمنة ، تقديم البشير المجدوب ، دار التّركي للنّشر ، تونس 1989 ص ص 109-111
الــتّحـــلــــيل:
-;- تمهيد : الأدب والفن من الإبداع البشري ..وهما يعبّران عن الانفعالات الذاتية المختلفة ويطرحان بطريقة مخصوصة قضايا عامة تنزع إلى الرّقيّ والسّموّ..وإذا كان الفنّ يعبّر عن الإحساس بالجمال في الكون وفي الوجود فإنّ الأدب يتناول شواغل الإنسان بصيغ كلامية ولغويّة متميّزة .
o الرّسم والنّحت والمسرح والرّقص والغناء فنّ .. والشّعر والرّواية والقصّة أدب .
o وبين الفنّ والأدب وشائج قويّة وصلات متينة وتلازم عجيب ..
-;- التقديم المادي: أخذ النصّ من كتاب » كليلة ودمنة » الذي ترجمه عبد الله بن المقفع عن الفارسية وأضفى عليه من روحه الكثير. وفيه تناول على لسان البهائم والطير قضايا سياسية وفكرية واجتماعية متنوعة فاشتهر بظاهره اللطيف القائم على الحكايات العجيبة وبباطنه الجادّ المبني على النقد والتوجيه
-;- الموضوع : محاورة بين كليلة ودمنة حول كيفية التعامل مع السلطان ..أبالمحاباة أم بالمناصحة؟
-;- التفكيك: المعيار: بنية النص الحجاجي
الأقسام : القسم الأول : من بداية النص إلى » و لا ينشط؟ »: عرض المعطى / الإشكالية: التعرّض لشأن الأسد
القسم الثاني: من » قال له كليلة » إلى » عدّ من البهائم »: سيرورة الحجاج وذلك بعرض أطروحتين متقابلتين بشكل تناظري ( de façon symétrique)
الأطروحة الأولى : من » قال له كليلة « إلى » الخشبة »أطروحة كليلة : السؤال عن أمر
الأسد جالب للسخط والضرر
الأطروحة الثانية : من » « قال دمنة » إلى » عدّ من البهائم »: أطروحة دمنة : طلب
المنزلة الرفيعة من شيم أهل الفضل
القسم الثالث: بقية النص : النتيجة : تشبث كليلة بموقفه
التحليل المفصّل:
-;- القسم الأول: عرض المعطى/ الإشكالية: التعرّض لشأن الأسد
• « يا أخي »: إنشاء طلبي نداء ، فيه استدعاء لرابطة الأخوّة الدّمويّة التي تضمن الأمان والثقة والطمأنينة لاسيما وأن المسألة محور الحديث ،ذات خطورة عالية وتتطلب مستوى رفيعا من الثقة والسرّيّة.
• » ما شأن الأسد؟ »: إنشاء الاستفهام .ويكشف إمّا عن الحيرة والاستغراب من شأن الأسد وبالتالي الرغبة في إشراك المحاور في تلك الحيرة أو الرغبة في المعرفة والبحث. ومن ذلك نتبيّن أولى ملامح شخصية دمنة المفكر المتسائل الباحث عن الحقيقة الذي لا يقنع بالسائد الراكد.
• » لا يبرح ولا ينشط » : خبر منفي . تقترن فيه أفعال الأسد بأدوات النفي .فهو يتّسم بالسلبية والسكون وربما العجز وهذا ما يثير الانتباه والحيرة من سيد الغابة صاحب السطوة والقوة رمز السلطة والغلبة
←-;- * شأن الأسد : أمر عام …إجمال يستدعي التفصيل + وتكون المواقف منه متعددة متضاربة لا يحظى أيّا منها بالقبول والإقناع التاميّن فهو أمر إشكالي
فإشكالية النصّ كالتالي: هل يمكن الخوض في شأن الأسد / صاحب السلطان ؟
وتكون الإجابات عديدة متضاربة قاصرة عن الإقناع ويمكن عرضها هكذا:
1 – قد نجيب بالقبول : فنواجه بأنّ ذلك يجلب السخط والخطر ويثار في وجهنا السؤال بأيّ وجه وبأي أسلوب يكون ذلك ؟
2 – وإن أجبنا بالرّفض فنتوهّم الراحة والأمان ونواجه بالتساؤل عن ثمن ذلك الصمت وحدوده.
• رمزية الأسد: النص حكاية مثلية على لسان البهائم العجم ولكنها تخوض في شأن البشر . فقد ذكر الأسد في البداية ثم سرعان ما تحوّل الحديث عن الملوك ( » باب ملكنا »+ » يدنو من الملوك » ) فالأسد مجرد قناع سرعان ما سقط وانكشف وإنما هو رمز لصاحب السلطة فرعونا كان أو إمبراطورا أو قيصرا أو كسر ى أو خليفة أو ملكا أو إماما أو شاها أو رئيسا