تحوّل الجري وراء المسؤوليات لتقلد المناصب والبقاء فيها أطول وقت ممكن إلى “فيروس” يسيطر على السواد الأعظم من المسؤولين الجزائريين، حيث إن “شهوة الكرسي” باتت تقليدا مشتركا من أعلى رجل في هرم السلطة إلى أدنى مسؤول؛ شاءت الأقدار أن يتبوأ رئاسة جمعية محلية أو حتى لجنة حي، لدرجة أن ثقافة التداول على السلطة وتجديد الدماء باتت “كفرا بواحا”، أو “رجسا من عمل الشيطان” في قاموس أشخاص يرفعون شعار “مسؤولون إلى أجل غير مسمى”. لا يمكن بداية الحديث عن هذا الوضع القائم الذي تحول إلى ظاهرة حقيقية في البلد، إلا إذا تفقدنا حال أهم كرسي في مقاليد الحكم، وتمعنّا في وضع أعلى منصب في مناصب الدولة، ذلك لأن العبرة غالبا ما تكون من الحاكم تجاه المحكوم، ومن الراعي نحو رعيته. تعديل الدستور من أجل عيون الرئيس وعند المعاينة نجد أن كرسي الرئاسة مشغول منذ 16 سنة متتالية من قِبل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يقضي عهدته الرابعة في سُدة الحكم بالرغم من تقدم السن ووطأة المرض. ومهما كانت المبررات التي يحملها أنصار الرئيس لتبرير بقائه كل هذه المدة “متربعا” على عرش رئاسة الجمهورية، إلا أن النقطة السوداء التي لا يمكن التغاضي عنها هو “العملية الجراحية” التي استهدفت أعلى وثيقة في البلاد سنة 2008 بموجب تعديل دستورى صوّت عليه نواب البرلمان آنذاك، وانتهى بفتح العهدات الرئاسية التي كانت محددة بعهدتين غير قابلتين للتمديد، ومن ثمة تمهيد الطريق للرئيس من أجل الفوز بعهدة ثالثة ورابعة فيما بعد.
وإذا كان “رب البيت للدف ضاربا، فشيمة أهل البيت كلهم.. الرقص”، ذلك أن كثيرا من مكونات المجتمع يعيبون على الرئيس بقاءه كل هذه المدة. في حين إن الأغلبية يحذون حذوه ويسيرون على خطاه، فمثلا “زعيم” الاتحاد العام للعمال الجزائريين لا يريد مغادرة “دار الشعب”، بالرغم من الهزات التي عرفتها المركزية النقابية في أكثر من مرة. ولعل أهم هزة هي تلك المتعلقة بفضيحة بنك الخليفة التي جرّت الرجل القوي في الاتحاد إلى أروقة العدالة، بسبب إيداع أموال صناديق الضمان الاجتماعي في الإمبراطورية المالية لمؤسسة خليفة المصرفية، بصفته رئيس مجلس إدارة الصندوق. ويشغل سيدي السعيد الأمانة العامة للاتحاد العام للعمال الجزائريين منذ سنة 1997، خلفا للراحل عبد الحق بن حمودة وإلى غاية نهار اليوم، حيث زكاه المؤتمر الثاني عشر الذي تم عقده بداية السنة الجارية لعهدة أخرى، قد تصل به إلى عقدين كاملين من الإشراف على القوة العمالية. نقابة القضاة في خبر كان وفي سياق المشهد النقابي، لم تعرف أشغال الجمعية العامة العادية للنقابة الوطنية للقضاة المنعقدة منتصف شهر مارس الماضي في فندق الرياض بسيدي فرج بالجزائر العاصمة أية مفاجآت تذكر، حيث تم تجديد الثقة في جمال عيدوني لعهدة ثالثة على رأس نقابة القضاة، ستمتد هذه المرة إلى أربع سنوات كاملة، بدل ثلاث سنوات فقط، بناء على التعديلات التي طرأت على القانون الأساسي. ولم يجد جمال عيدوني صعوبات للحفاظ على كرسيه الذي شغله قبل سنوات خلفا للرئيس السابق للنقابة راس العين، وذلك في ضوء عدم وجود أي منافسين، ما انتهى بتزكية جماعية، بعد المصادقة على التقريرين المالي والأدبي. نقباء يحطمون رقم غينيس ودائما في جهاز العدالة، فإن المشهد لا يكاد يختلف كثيرا بالنسبة لأصحاب الجبة السوداء الممثلين لجبهة الدفاع، حيث أسفرت الانتخابات الأخيرة لمنظمات المحامين المنظمة السنة الماضية عن إعادة انتخاب 11 نقيبا لولاية جديدة من أصل 18 منظمة جهوية موجودة في الوطن. وتمكن العديد من النقباء من خلافة أنفسهم للمرة الخامسة والسادسة على التوالي. في حين حطم الأستاذ الأنور مصطفى، الرئيس السابق للاتحاد الوطني لمنظمات المحامين، الرقم القياسي في عدد العهدات، إذ يحتفظ بلقب “أقدم نقيب” بقي على رأس منظمة محامين بـ12 عهدة على التوالي، ما يعني بلغة الأرقام 36 سنة كاملة كنقيب، مع إمكانية بلوغ الأربعين سنة في حال فوزه بالعهدة 13 خلال الانتخابات المقررة بعد سنتين من الآن، استنادا لقانون المحامي الجديد 13– 07 والمحدد لسقف العهدات بعهدتين متتاليتين، كون النقباء انتهزوا مبدأ عدم تطبيق هذا النص الجديد بأثر رجعي للبقاء على رأس منظماتهم أكبر وقت ممكن. وفي الصحة أيضا.. من جانبه، يواصل الدكتور بقاط بركاني محمد ممارسة مهامه كرئيس للعمادة الوطنية للأطباء، بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة التي تتكرر طبقا للقانون مطلع كل سنتين، حيث يواصل مهامه في تمثيل شريحة الأطباء منذ 12 سنة مضت. والأمر نفسه ينطبق على جمال ولد عباس، عضو مجلس الأمة الحالي والوزير السابق الذي تقلد عدة حقائب وزارية، حيث ظل هذا الأخير على رأس الاتحاد الطبي الجزائري لسنوات طويلة، لدرجة أنه استعان بهذا الأخير أثناء توليه وزارة الصحة، وعمد في سنة 2010 إلى عقد مؤتمر مواز للأطباء العرب في الجزائر، لمواجهة التصحيحية التي قادتها العمادة مع مجموعة من النقباء، وانتهت بإزاحة أمين عام هذا التنظيم المصري عبد المنعم أبو الفتوح. رادع القانون لإنهاء “السيطرة” على المناصب وقد اضطرت وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات، قبل أشهر قليلة مضت، إلى استعمال رادع القانون لإنهاء سيطرة عشرات البروفيسورات الذين ظلوا يترأسون مصالح طبية عبر كل مستشفيات الوطن لسنوات طويلة، ورفضوا التزحزح عن مكانهم رغم تجاوز الأغلبية الساحقة منهم سن التقاعد، حيث تدخل وزير الصحة من خلال قرار وضع حد لهذه الوضعية التي أثرت سلبا على الكثير من هذه المصالح، باعتبار أن بعضها عرف تجاوزات خطيرة، على غرار إحدى المصالح التي وصل الحال بها إلى حد توقيع وثائق المصلحة من قِبل ابن رئيسها الذي كان يعاني من مرض خطير، ومع ذلك لم يرد التفريط في المسؤولية. رئيس “أولياء التلاميذ” منذ.. عقود والغريب في الأمر أن حتى الجمعيات لم تسلم من هذه الظاهرة التي استشرت بشكل كبير، وأحسن مثال على ذلك جمعية أولياء التلاميذ التي يترأسها الحاج دلالو، والتي تحوّلت مع مرور الوقت إلى فيدرالية وطنية، حيث يقضي هذا الأخير مدة زمنية أصبحت اليوم تحسب بالعقود على رأس هذه الهيئة، بالرغم من أن خصومه يؤكدون بأنه لا يملك الصفة من منطلق أنه ليس لديه أبناء يتمدرسون. حلاوة الاستوزار وحلم العودة أما فيما يتعلق بالجهاز الحكومي، فمن ذاقوا حلاوة الاستوزار يعز عليهم فراق المنصب، إلا إذا تعارضت هذه الأمنية مع رغبة الرئيس، أو اضطرت الظروف لإجراء تعديلات تفرضها غالبا طبيعة الوضع الذي تمر به البلاد، أو المدة الطويلة التي يبقى فيها الوزير الفلاني أو الوزيرة العلانية، على غرار أسماء كثيرة عمّرت طويلا في قطاعات معينة، على غرار أبوبكر بن بوزيد الذي أشرف على وزارة التربية الوطنية لقرابة 14 سنة كاملة، وذلك خلال مسيرة التحاقه بالحكومة التي دامت من سنة 1994 وإلى غاية 2012. والأمر نفسه ينطبق على وزير الشؤون الدينية والأوقاف السابق بوعبد اللّه غلام اللّه، الذي بقي على رأس القطاع 17 سنة متتالية من سنة 1997 إلى آخر تعديل حكومي بالرغم من القلاقل التي عرفها القطاع، خاصة فيما يتعلق بسوء تنظيم الحج، وعمّار غول وزير النقل الحالي والذي جاء اسمه ضمن 15 تعديلا حكوميا أجري في السنوات الأخيرة، حيث أشرف منذ استوزاره سنة 1999 وإلى غاية اليوم على ثلاث وزارات في رحلة وزارية انتهت بانشقاقه عن حزبه حركة مجتمع السلم، وتفجر قطاع الأشغال العمومية الذي كان يشرف عليه بفضيحة الطريق السيار شرق- غرب التي لم تكشف عن فصولها بعد، فضلا عن أسماء كثيرة من الوزراء الذين حتى عندما يتم إنهاء مهامهم يتم تعيينهم في مناصب أخرى في انتظار حلم العودة. المؤبد لرؤساء الأحزاب! وحتى الطبقة السياسية الممثلة في الأحزاب تتوالى مؤتمراتها لتفرز الوجوه القيادية نفسها التي تأبى أن تسلّم المشعل للغير بحجة تجديد الثقة فيها. بما فيها بعض أحزاب المعارضة، لم تسلم من الظاهرة. وينطبق هذا التوصيف على مجموعة من الأحزاب، على غرار حزب عهد 54 الذي لا يزال مؤسسه علي فوزي رباعين على رأسه منذ 27 مارس 1991، أي منذ أزيد من 24 سنة مضت، ترشح من خلالها للعديد من الاستحقاقات الرئاسية. كما أن موسى تواتي يواصل مهامه كرئيس لحزب الجبهة الوطنية الجزائرية الذي أسسه غضون سنة 1998، بالرغم من الاضطرابات التي حاول أتباعه زعزعته من خلالها دون جدوى في وقت سابق. من جهتها، الأمينة العامة لحزب العمال، لويزة حنون، تحتفظ بهذا اللقب على رأس هذا التشكيل السياسي الذي سمح لها بأن تكون أول امرأة في الجزائر والعالم العربي تترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2004 منذ ربع قرن، وهي الفترة التي مرت عن تأسيسها لحزب العمال. أما عن الأحزاب الصغيرة أو المجهرية فحدّث ولا حرج، باعتبار أن من يتولى إمرتها يبقى في منصبه ويشُد على كرسيه بعضُديه، إلى أن يقضي اللّه أمرا كان مفعولا. م. د
استثناءات تحفظ ماء الوجه
في غمرة التشبث بالكرسي الذي تحوّل إلى أمر واقع، توجد بعض الاستثناءات القليلة التي باتت حالات شاذة تتكرر من حين لآخر، تاركة بصيص أمل لإمكانية تغير الذهنيات ولو بعد أمد طويل، فالتاريخ يحتفظ لرئيس الجمهورية السابق اليامين زروال تنظيمه لانتخابات مسبقة وتسليم مقاليد الحكم لخليفته آنذاك الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، فضلا عن تقديم أحمد بن بيتور استقالته يوم 27 أوت من سنة 2000، بالرغم من أنه كان يشغل منصب رئيس للحكومة، مفسّرا فيما بعد قراره باختلاف في الرؤى بينه وبين الرئيس بوتفليقة حول مسألة التشريع بالأوامر، إلى جانب حالات معدودة لاستقالات من مجلسي الأمة والبرلمان، على غرار المحامي والحقوقي مقران آيت العربي، والاستقالة الأخيرة للحقوقي مصطفى بوشاشي، علما أن السواد الأعظم من السياسيين الجدد يتقاتلون من أجل الظفر بهذه المقاعد نظرا للامتيازات المالية المعتبرة والحصانة التي توفرهما لصاحبها.
نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الشيخ آيت سالم “المسؤولية أمانة وهي خزيٌ وندامة يوم القيامة”
أكد الشيخ آيت سالم، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بأن المسؤولية في الإسلام تكليف قبل أن تكون تشريفا، مُشددا على الانعكاسات الخطيرة التي تترتب عن إسناد الأمور لمن لا يستحقها، سواء على الفرد أو المجتمع. وأوضح إمام دار الحديث، الذي استفسرته “الخبر” حول رأي الشرع في موضوع الاستخفاف الجاري في تحمل المسؤوليات واحتكار المناصب لأطول وقت ممكن، بأن المسؤولية في الإسلام تمنح لمن يكون قادرا على أدائها وتحمل مشقتها، مستدلا على ذلك برفض رسول اللّه صلى اللّه تولية أبي ذر الغفاري، رضي اللّه عنه، عندما طلب ذلك رغم حبه الشديد له، حيث قال له صلى اللّه عليه وسلم “يا أبا ذر إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”، الأمر الذي يوضح حرص النبي على إسناد الأمر لمن تتوفر فيه الصفات المطلوبة. كما أن التوجيه الإلهي أرشدنا إلى شروط الولاية من خلال الآية التي وردت في سورة سيدنا يوسف، حينما قال “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، حيث إن من يتقلد المنصب يجب أن يتمتع بالأمانة والكفاءة، بما فيها الكفاءة العلمية والخلقية، فضلا عن الآية الأخرى التي استنبط منها العلماء الشروط الواجب توفرها لتولي الأمر من خلال قوله تعالى “يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين”، حيث إن القوة هنا يتسع معناها لتشمل القوة البدنية والعلمية والنفسية والأخلاقية، فضلا عن شرط تحمّل الأمانة الملقاة على عاتق المسؤول. وحسب الشيخ آيت سالم، فإن القصد الأول لمن توكل له المسؤولية يجب أن يكون خدمة الصالح العام الذي ينبغي أن يقدم على خدمة المصلحة الشخصية، ومن ثمة فإن المسؤول أو الولي لا ينبغي له أن يستغل منصبه لتحقيق مآربه وقضاء حاجاته ومصالح أقاربه وأصدقائه أو تقديم من لا حق له في التقديم وتأخير من لا يستحق التأخير، مضيفا بأن الانتفاع الشخصي من خلال تقاضي راتب أو مستحقات نظير هذه المسؤولية هو أمر تبعي لا بأس به، غير أنه لا ينبغي أن يكون بأي حال من الأحوال غاية، لأن القصد الأساسي ينبغي أن يكون مصلحة الأمة. أستاذ علم الاجتماع الدكتور لقجع عبد القادر “احتكار المسؤولية يستدعي دراسة علمية متخصصة” اعترف الدكتور لقجع عبد القادر، أخصائي علم الاجتماع، بعدم وجود تنظيمات وآليات اجتماعية وسياسية تسمح بالتداول على المناصب المتاحة، الأمر الذي أدى إلى تنامي ظاهرة احتكار المسؤولية من قِبل شاغليها، مضيفا بأن تغيير هذا الوضع يبدأ أولا بضرورة إنجاز دراسة علمية متخصصة لفهم هذه الظاهرة وتشريحها. وحسب عميد قسم علم الاجتماع بجامعة وهران، فإن هذه الممارسات التي يحتكر فيها الأفراد المسؤوليات المسندة إليهم ليست حكرا على الجهات الممثلة للسلطة فقط، بل هي مستشرية في كل المجالات والقطاعات، بما في ذلك المؤسسة الجامعية، كما أنها ليست خاصة بالجزائر بل تكاد تكون القاسم المشترك الذي يميز عامة الدول العربية، مرجعا أسباب تناميها إلى غياب ثقافة التداول على السلطة لدى أغلبية مكونات المجتمع في ضوء انعدام تقاليد تكرس هذا المبدأ. ويرى المتحدث ذاته بأن فهم هذه الظاهرة وتشريحها يجب أن يشمل كل العلوم الاجتماعية لدراستها دراسة مستفيضة من قِبل فريق علمي متخصص لإيجاد الحلول الجذرية التي تنتهي بفرض تقاليد لنقل السلطة، مضيفا بأن سياسة الاستحواذ على المسؤولية من قِبل شاغليها تحرم الآخرين من التكوين، “إذ كيف يمكن للشباب أن يكسبوا التجربة اللازمة إذا لم يُسمح لهم بأخذ زمام المبادرة وتقلد المسؤوليات”.