توفي رئيس الحكومة الأسبق وأحد الوجوه الدبلوماسية والإعلامية البارزة، رضا مالك، السبت، عن عمر ناهز الـ86 سنة، إثر مرض عضال لازمه خلال السنوات الأخيرة.
وشغل رضا مالك منصب مدير صحيفة المجاهد، لسان حال جبهة التحرير، ثم ناطق رسمي باسم الوفد الجزائري المشارك في مفاوضات (لم يكن عضوا بل مرافقا للوفد) الاستقلال التي قادتها حكومة الجمهورية الجزائرية المؤقتة ضد الحكومة الفرنسية.
ورضا مالك هو أحد الدبلوماسيين البارزين الذين طبعوا المشهد بحضورهم منذ البدايات الأولى للاستقلال، فقد قاد العارضة الدبلوماسية للجزائر في الدول العظمى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي (سابقا)، وبريطانيا العظمى وفرنسا.. كما لعب دورا خلال أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، وساهم بفضل الثقل الذي كانت تتمتع به الدبلوماسية الجزائرية في الإفراج عن الرهائن.
حضور رضا مالك المستمر وشبه الدائم في هرم السلطة وفي محيطها، كان تمثيلا لتيار يوصف بأنه « حداثيا »، فيما يعتبره البعض مقلدا لقيم الحضارة الغربية، وقد كان إلى جانب وزير التربية الأسبق، مصطفى لشرف، منظرا للتيار اللبرالي العلماني في السلطة حتى في عهد توجهاتها الاشتراكية، لا سيما في حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين.
ويرى مراقبون أن حضور رضا مالك خلال فترة حكم الراحل بومدين، كان في إطار لعبة التوازنات التي كان يديرها بومدين بين التيار المحافظ ممثلا في وزير الخارجية الأسبق، أحمد طالب الإبراهيمي ووزير الصناعة حينها، عبد السلام بلعيد.. والتيار الموصوف بـ « التغريبي »، الذي يعتبر مالك أحد أبرز الوجوه فيه.
وإن عانى التهميش خلال فترة حكم الرئيس الراحل، الشاذلي بن جديد، حيث شغل رضا مالك آخر منصب دبلوماسي له كسفير في لندن (1982/ 1984)، إلا أنه لم يلبث أن عاد للواجهة مجددا، بعد استقالة (أو إقالة) الشاذلي في جانفي 1992، فقد كلف من قبل رئيس المجلس الأعلى للدولة، الراحل محمد بوضياف برئاسة المجلس الاستشاري الذي ملأ شغور المجلس الشعبي الوطني، في أعقاب وقف المسار الانتخابي (1992)، ثم وزيرا للشؤون الخارجية، فعضوا بالمجلس الأعلى للدولة، الذي ملأ شغور منصب رئيس الجمهورية.
كانت عشرية التسعينيات ربيعا سياسيا بالنسبة لرضا مالك، الذي بدا وكأنه ولد من جديد بالنظر للمسؤوليات العديدة التي تقلدها في ظرف وجيز، حيث ترأس الحكومة خلفا لعبد السلام بلعيد (خصمه الإيديولوجي).. اقترن اسم الرجل خلال الأزمة الأمنية في التسعينيات بعبارته الشهيرة « على الخوف أن يغير موقعه »، وهو التصريح الذي وضعه، حسب حقوقيين، « عراب » الاستئصاليين في البلاد.
غير أن فترة تربعه على كرسي قصر الدكتور سعدان، لم تدم سوى نحو ستة أشهر، حيث أبعد مباشرة بعد تولي الرئيس السابق اليامين زروال مقاليد رئاسة الدولة.
ومنذ وصول زروال إلى سدة الرئاسة في جانفي 1994، تحول رضا مالك إلى المعارضة، فأسس حزب التحالف الوطني الجمهوري، رفقة بعض الوجوه المحسوبة على توجهه، في صورة رفيقه في عضوية المجلس الأعلى للدولة سابقا، علي هارون، وكذا الضابط المتقاعد ووزير الري الأسبق، سليم سعدي.
وإن لم يحقق حزب رضا مالك انتشارا في الأوساط الشعبية بسبب توجهاته الفكرية والنخبوية، إلا أنه أبان عن توجهات موالية للسلطة (دعم ترشح الرئيس بوتفليقة) مكنته من الحصول على بعض الحقائب الوزارية في الحكومات المتعاقبة، وكانت آخرها حقيبة كاتب الدولة للجالية بالخارج في حكومة عبد المالك سلال، والتي تقلدها الأمين العام للحزب، بلقاسم ساحلي، الذي تربطه علاقة قرابة بمؤسس الحزب رضا مالك، الذي قرر تطليق السياسة في العام 2012.
هذا ما قاله رضا مالك في آخر منتدى له بـ »الشروق »:
وقفت ضد العربية.. وهذا ما قلته لنحناح بخصوص قمة روما
يعتبر رئيس الحكومة الأسبق المرحوم رضا مالك من أكثر الشخصيات الوطنية والسياسية إثارة للجدل في الجزائر، وذلك بحكم مواقفه الصلبة والمتوترة والمتطرفة أحيانا تجاه الإسلاميين، لكنه في المقابل، ينسب نفسه للإسلام التنويري، كونه متخصّصًا في الدراسات الفسلفيّة ومن الرعيل الثوري الذي واجه الاستعمار الفرنسي بشراسة، وفيما يلي رصد لأبرز التصريحات التي تؤرّخ لأفكار الرجل، التي صدح بها قبل سبع سنوات في منتدى جريدة « الشروق ».
« عيب الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنها كانت تتلقى الدروس من الخارج، فقد كان أسامة بن لادن يقوم انطلاقا من السودان بكتابة شعارات لصالح « الفيس » وبخط يده، وهذا ما لا يمكن قبوله أبدا ».
« الاستئصال هو من أتى بأبي جرّة و »حمس » إلى الساحة السياسية.. يجب أن يشكرونا، نحن أوقفنا « الفيس » عندما أخذنا نحن المواقف فعاشوا هم.. دافعنا عن الإسلام عندما لم يكن فيه « بيترودولار » (يقصد دول الخليج) بل كانت القناعة والصمود في الإيمان ».
« الظاهرة الاسلاماوية تسير بالبترودولار.. الإسلاميون يكذبون ونعيش اليوم في سفسطائية والابتعاد عن جادة الأمور مقارنة بالإصلاح الحقيقي وما جاء به من التفكير والتنوير ».
المسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده.. والإسلاموي هو الذي يستعمل الدين أداة لخدمة أغراض ومصالح ليس لها علاقة بالدين، والقرآن نفسه يحث على عدم الغلو في الدين ».
« يجب أن أعترف بأن الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، زارني قبل سانت إيجيديو، وطلبت منه عدم الذهاب، لكنه قال بأنه سيذهب ليتحدث عن جرائم الإرهاب فقط، وهو ما حدث بالفعل ».
« قرار تجميد تعميم استعمال اللغة العربية في 1992 لم يكن قراري وحدي، وإنما كان نابعا عن إجماع حصل في أعلى هرم للسلطة وقتها، وبموافقة من رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف، وهو الأمر الذي جعل القرار يحمل طابع خيار الدولة الجزائرية.. ذلك أنّ المادة 29 من القانون، والمتعلقة باعتبار أي وثيقة رسمية أو مراسلة بغير اللغة العربية ملغية، أثارت مشكلا في تعاملاتنا مع الدول الأجنبية، الأمر الذي جعل سفارات عدد من الدول الغربية تعبر عن قلقها حيال تطبيق القانون على اعتبار أن كل خرق للمادة القانونية تترتب عليه عقوبات ».
« أنا أندد بفكر الأنديجانية (الأنديجان هم الأهالي في الأدبيات الفرنسية) الجديد، كان « بني وي وي » ينحنون أمام الاستعمار.. واليوم يوجد أنديجان جدد يموتون في حب فرنسا والغرب، كن رجلا وتعاون مع الغرب، لكن لا تكن إنديجانيا جديدا ».
« طلب مني جيمي كارتر (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية) وساطة الجزائر في أزمة الرهائن في 1982 قائلا: ساعدونا في حل هذه القضية ونعدكم بالوقوف إلى جانب جبهة البوليزاريو في نزاعها مع المملكة المغربية ».
« هناك بند في اتفاقيات إيفيان الموقعة بين الحكومة الجزائرية المؤقتة والسلطات الفرنسية يقر بأحقية سكان المناطق التي تجري بها التجارب النووية في التعويض عن الضرر الذي قد يلحق بهم، جراء هذه التجارب ».
« لقد تعرض الشعب الجزائري لحرب إبادة طيلة 132 من الاحتلال، غير أن محاولة حصر هذه الجرائم في مطالبة الفرنسيين بالاعتذار ثم التعويض، يعتبر تقزيمًا لتضحيات امتدت على مدار العديد من السنوات.. يجب عدم السقوط في الفخ.. لقد وقفت الجزائر ودافعت بقوة السلاح من أجل الاستقلال، ونجحت في طرد المستعمر، وفي ذلك أكبر إدانة للعدو، الذي طُرد بالقوة وليس بالكلام ».
الراحل في نظر من عايشه
اختلفت رؤى من عايش الفقيد الراحل رضا مالك، لكنها التقت عند قناعة واحدة، مفادها أن الرجل كان سياسيا ودبلوماسيا مثقفا ومؤدلجا، خدم الجزائر من الزاوية التي كان يدور فيها، فالأفكار والمواقف التي صدرت عنه كانت انعكاسا لما كان يؤمن به. ويجمع من تحدثت إليهم « الشروق » على أن رئيس الحكومة الأسبق، لم يتأخر عن تلبية الدعوات التي وجهت إليه لخدمة البلاد، مستغلا حنكته الدبلوماسية وخبراته التي تراكمت على مدار عقود من الزمن.
أبو جرة سلطاني:
رضا مالك مثقف مؤدلج
رضا مالك واحد من صناع أمجاد الاستقلال بأدواره الدبلوماسية وشبكة علاقاته التي أسسها خلال الثورة، وبمشاركاته في مفاوضات ايفيان. ومع بدايات الاستقلال وظف رصيده في بناء مشروع الدولة الوطنية على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وهو مثقف ايديولوجي اختط لنفسه تيارا واضحا. له في قلوب الجزائريين تقديرا على مساره الذي حاول أن يعطي للدولة الوطنية الجزائرية مشروع مجتمع كبير، وقد ساهم في إحداث ديناميكية في مرحلة الحزب الواحد، من خلال النقاشات التي طفت إلى السطح بعد أحداث أكتوبر 1988.
رضا مالك ساهم في إدارة ملف المأساة الوطنية سواء في التمهيد لما وصلت إليه الجزائر من تعددية بعد دستور 23 فبراير أو في خضم الصراع الذي عرفته الجزائر خلال سنوات المأساة الوطنية عندما قاد الجهاز التنفيذي كرئيس للحكومة.
قلمه أيضا لم يبخل في تصوير المرحلة التي عاصرها، وفي تحليل الأحداث التي كان شاهدا عليها في مساره الدبلوماسي السياسي وكذلك تصوره للدولة الجزائرية التي خالفه فيها الكثيرون ومنهم على وجه الخصوص الشيخ محفوظ نحناح الذي كان يرى أن الذين صنعوا الثورة وكانوا جزءا من تاريخ الجزائر وتحقيق استقلالها وسيادتها الوطنية لا يمكن أن يكونوا إلا ضمن توجه الشعب الجزائري بأبعاد الهوية الوطنية الإسلام العروبة والأمازيغية، وقال محفوظ نحناح « طالبنا برضا الشعب فجاءونا برضا مالك »، ومع ذلك فإن الخط الذي ناضل من أجله حظي بكثير من الاحترام على أساس انه كان واضحا في مساره وصارما في الدفاع عن خياره وشديد التمسك بالوحدة الوطنية.
شخصيا قابلته عندما كنت في الجهاز التنفيذي وتناقشت معه في الكثير مما طرح، واكتشفت انه لم يفتح نقاشا واسعا مع النخب التي تقبل بالتنوع الثقافي في إطار الوحدة الوطنية وأن أحكامه عن التيار الإسلامي في الجزائر نابعة من مسموعاته ومقروءاته أكثر مما هي بلورة لأفكار نابعة من حوار مع مفكرين كبار يدركون أن التنوع الثقافي للوطن إذا لم يقدم في لون ايديولوجي جامد يعطي للوطن بدائل كثيرة نحتاجها اليوم في المشهد السياسي الذي يؤمن به جميع أبناء الجزائر في السلطة والمعارضة بأن الجزائر تسع الجميع، وأن التنوع إثراء لرصيد مسيرتنا الوطنية، وأن أبعاد الهوية الوطنية واضحة وثابتة في بيان أول نوفمبر ووثائق الثورة ونص الدستور، وذلك ما كان يؤمن به المرحوم رضا مالك.
شخصيا تمنيت لو أتيحت الفرصة له ولأمثاله مما اكتسبوا من خبرة سياسية ودبلوماسية لأن ينقلوها لجيل الاستقلال في محاضرات عبر الجامعات الجزائرية لتحقيق اللحمة بين جيل الثورة وجيل الاستقلال، خاصة وأن الأجيال الأخيرة بدأت تفقد الكثير من مفردات تاريخنا الوطني.
كمال بوشامة:
كان مناضلا فذا وسياسيا محنكا
رضا مالك الذي يغادرنا اليوم، كان مناضلا فذا وسياسيا محنكا ضمن ثلة من أبناء الجزائر الذين عاشوا المثل العليا التي مكنتهم من قيادة الجزائر إلى الاستقلال والتقدم والازدهار. الراحل عرف بمساره الغني كمناضل من حركة الطلبة إلى انضمامه إلى جبهة التحرير ومشاركته في مفاوضات ايفيان. بعد الاستقلال لم ينقطع عن العمل السياسي من خلال المسؤوليات التي أسندت له والحقائب التي كلف بها. رضا مالك عرف بصراحته وصرامته، لم يتوقف عن النضال من اجل قضايا الشعب ولم يبخل بوضع خبرته في خدمة تقدم وازدهار الجزائر. برحيله تكون الجزائر فقدت اسما ليس من السهل تعويضه وهو تعبير عن جيل منح للجزائر هيبتها واحترامها بين الأمم في الخارج.
رئيسة مؤسسة سليمان عميرات:
كان خدوما رغم مرضه
قالت رئيسة مؤسسة سيلمان عميرات التي سبق وأن استضافت رضا مالك في عدة محاضرات، إن المرحوم لم يكن يبخل أبدا ولا يتأخر في تلبية دعوة لتقديم المحاضرات وعقد الندوات التاريخية حتى عندما تكون ظروفه الصحية متعبة، حيث كان متحمسا دائما من أجل تقديم خلاصة تجاربه ونضاله للشباب.
رحيل المرحوم رضا مالك الذي يعتبر آخر الشهود في مفاوضات ايفيان، يشكل خسارة للجزائر وتاريخها بوصفه واحد من السياسيين المحنكين والمناضلين الأفذاذ الذين خدموا البلاد في الاستقلال وقبله.