بعيدا عن عبارة « مسكينة ماجاهاش مكتوبها » و »مالقاش بنت لحلال » … وغيرها من عبارات الحسرة التي يرددها المحيطون بالمتأخرين عن الزواج هناك مجموعة من النساء والرجال تقدمت بهم سنوات العمر ودنو من المنية ولم يكملوا بعد نصف دينهم، البعض منهم اختار ذلك عن قناعة تامة ودراية فالوحدة والبقاء بدون شريك حياة أرحم بكثير بالنسبة إليهم مما شاهدوه أو سمعوه من المحيطين بهم، وآخرون أجبرتهم الظروف الصعبة على تأجيل فكرة الزفاف وإلغائها واستكمال مشوار حياتهم بمفردهم.
قد يكون من الغريب الخوض في الحديث عن أشخاص عزفوا بملأ إرادتهم وهم في كامل وعيهم وقواهم العقلية عن خوض تجربة الزواج، معلنين اعتزال « الحب »، والاكتفاء بعيش حياتهم بصفة طبيعية والتكيف مع الوحدة التي تتربص بهم لا محالة خلال الأعوام القليلة القادمة، لكنها الحقيقة فبالرغم من قلتهم لكنهم موجودون ومؤمنون باختيارهم.
تحكي لنا « س، ف » والتي تجاوزت الخمسين من العمر، لكنها مازالت ترفض جميع من يتقدمون لطلب يدها، تقول: كنت أصغر إخوتي وجميعهم تزوجوا وغادروا المنزل، بعد فترة مرضت والدتي فبقيت لجانبها أرعاها حتى توفيت وبعدها مرض والدي وبقيت أرفض العرسان مفضلة رعاية والدي لحين وفاته، والآن بعدما تخطيت الخمسين مازال العرسان يطرقون بابي، لكنني أردهم فقد كرست حياتي لوالدي وأخشى أن يكون العريس طامعا في ما تركه لي والدي من منزل وسيارة وأموال.
أما محدثتنا التالية والتي فضلت مناداتها بـ »مريم » وهي في منتصف الأربعين من العمر وتمارس مهنة التعليم، مفضلة التفرغ لوظيفتها بعدما تجرعت الذل والهوان رفقة والدتها وأشقائها على يد والدهم، فكان لا يتوانى عن حرمانهم من الطعام وينهال على والدتها بالضرب، وبلغ به الأمر لبيع مجوهراتها وكان يرغمها على طلب المال من أشقائها ليتخلى عنهم ويعاود الارتباط من شابة غنية تكبره سنا، واستطردت محدثتنا كان والدي عبدا للمال والآن أصبحت أخشى الزواج من رجل يضربني ويستولي على مرتبي الشهري.
وبعيدا عن المشاكل النفسية والخوف اللذان يكونان غالبا سببا في إحجام الجنس اللطيف عن الارتباط قد يكون الوفاء لذكرى خطيب سببا في ذلك، وهو ما حدث مع » ل » فهي تبلغ من العمر الآن 53 عاما موظفة، ومازال وجهها يحتفظ بلمحة جمالية رغم الكدرة والحزن العميق القابع داخلها، فقد ارتبطت وهي في سن العشرين بشاب عشقته خلال دراستهما الجامعية واصطدمت بمعارضة قوية من والديها، لكنها تمسكت به ودامت خطبتهما 7 سنوات، أصيب خلالها خطيبها بالسرطان وتوفي تاركا حسرة ووجعا بقلبها.
ومع أننا سعينا لمعرفة شعور محدثاتنا بالحرمان من أهم وأعظم إحساس في الدنيا وهو الأمومة، لكنهن كن مقتنعات بأن الأمر بيد الله، فهناك سيدات تزوجن في العشرين ولكن المولى لم يقدر لهن الإنجاب فعشن حياتهن الزوجية وهن محرومات من الذرية وهن يجدن البديل في أبناء العائلة.
ولا يقتصر رفض الزواج ومقاطعته على الجنس اللطيف بل يشمل حتى الرجال، وهو حال إطار في الخمسينات من العمر، تخلى عن فكرة الزواج تماما بعدما ارتبط عاطفيا في أيام شبابه بإحدى قريباته ولعجزه وعدم امتلاكه مسكنا خاصا ومرتبا شهريا، زوّجت الفتاة لآخر وبقي بمفرده يتألم ليعلن اعتزاله الزواج مدى الحياة، أما آخر فبعد سلسلة من الزيجات الفاشلة لأشقائه وشقيقتيه وانتهت جميعها بالطلاق فضّل وهوأصغر إخوته عدم الزواج لعدم امتلاكه شقة ورفقا بحال أبناء شقيقتيه.
مختص في علم الاجتماع: المجتمعات الحديثة جعلت فكرة الزواج أكثر تعقيدا
وفي السياق، أوضح المختص في علم الاجتماع الأستاذ يوسف حنطابلي، أصل الزواج هو الرغبة في تكوين عائلة وأسرة فهو فطرة في الإنسان وله أبعاده الدينية، الاجتماعية، والتاريخية والحاجة له في أي مجتمع تنبع من الثقافة السائدة فيه، فما كان في السابق يدفع الفرد سواء ذكر أو أنثى للزواج في المجتمعات التقليدية هو الأسرة، فحتى قبل التفكير فيه يجد نفسه مرتبطا في سن مبكرة.
ويواصل المختص، أما في المجتمعات الحديثة فمن شدة التفكير فيه أصبحت فكرة معقدة والزواج بحد ذاته أشد تعقيدا فالرجل الذي كان في المجتمعات القديمة يتزوج حتى يجد امرأة ترعاه تغسل له ثيابه وتحضر له طعامه، والمرأة التي كانت تتزوج بحثا عن الدعم المادي والمعنوي صار بإمكانهما العثور على غايتهما وتحقيقها في المجتمع الحالي دون الحاجة للزواج مما زاد عزوفهم عنهم وتوجسهم من تبعاته الباهظة.
وحول نظرة المجتمع أكد المختص في علم الاجتماع غيابها فلم تعد له نظرة واحدة بل تعددت ومازالت نظرة المجتمع راسخة في ذهننا، معترفا بأن الأمر يختلف في بعض المناطق التي ما تزال محافظة على الأسرة.