« أجبر جامعة أمريكية على مراجعة قوانينها في أسبوع، وإدراج ديبلوم جديد لمنحه إياه لأنه صنع الاستثناء.. من العدم.. من الصفر انطلق.. من دوار في الهضاب العليا بسطيف.. كانت البداية وبلغ به الإيمان بذكائه وحبه للعلم درجات على.. فأذهل الأمريكان وأصبح قدوة يحتذى بها، مثل الجزائر أحسن تمثيل وغير الفكرة من « إرهابي » إلى حفيد الشهداء والباحث المقتدر الذي تبنته أمريكا ومنحته عديد الشهادات والامتيازات.. وعاد إلى الجزائر الأم فكان نصيبه « شهادة بطال.. لا يمارس أي عمل بأجر »..
هو الدكتور عبد الرحمان يامين صدوق، من مواليد 28 أفريل 1961 ببازر سكرة في ولاية سطيف، العقل المهاجر الراغب في العودة إلى الديار، ترعرع في منطقة بازر سكرة، هناك حيث كان والده فلاحا بسيطا، رعى الغنم مع أقرانه، وعاش ظروفا قاسية في طفولته، ورغم ذلك لم تثنه قساوة الطبيعة والظروف على المضي قدما لغنم الشهادة تلو الشهادة واللغة تلو الأخرى والمنصب بعد الآخر، رسالته لتلاميذ اليوم وطلبتها من أبناء الوطن، « أن أمضوا، فظروفكم اليوم أحسن من ظروفي بالأمس ورغم ذلك بلغت ما رغبت فقط، لأنني قررت، أنتم اليوم تحوزون كل شيء ولا تنقصكم سوى الإرادة والثقة بالنفس، بل أن 80 في المائة منكم لديهم أفضل مما كان لدي عندما شققت مساري الدراسي، لا أحد أفضل منكم لا الأمريكان ولا حتى الفرنسيين.. بالعكس الفيصل بيننا هو معدل الذكاء وهم ليسوا بأفضل منا ».
بشارالأسد كان زميله في كلية الطب دمشق
من مدرسة لعوازقة، إلى متوسطة ابن باديس، إلى جامعة سطيف، ومن ثمة إلى جامعة دمشق، فكلية الطب بجامعة نيويورك ومن هناك إلى جامعة سانت روزفلت بكولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، كان المشوار الدراسي للنابغة، مذهل الأمريكان، الدكتور صدوق عبد الرحمان، كان نابغة زمانه وحصل على شهادة البكالوريا بمعدل امتياز مكنه من دخول الجامعة والحصول على أولى المراتب التي أهلته لحصد منحة لدراسة الطب بكندا، غير أنه اختار الدراسة في سوريا حبا في اللغة العربية وليس عقدة أو نقصا، هناك بسوريا، حيث كان زميل بشار الأسد، يقول أنه كان رجلا طيبا، وكان الجميع يحبه، وتمنى هو ورفاقه في الدراسة عندما انتخب رئيسا أن يذهب بحاضنة الأمير عبد القادر إلى مصاف الدول المتقدمة.. ولكن.. لم يعلق الزميل على زميله واكتفى برسم علامات تحسر على محياه..
مسؤول بوزارة اعتبر دراسته الطب بالعربية تحضيرا لكتابة « لحجابات »
عودة الطبيب العام آنذاك إلى الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، كان صادما، فلقاؤه بأحد المديرين المركزيين بوزارة التعليم العالي لم يكن مقدرا ولا حتى مشجعا، المدير قال له في أول لقاء بنابغة عائد بعد نيل الشهادة « درست بالعربية يعني رح تكتب لنا حجابات » -يقصد الطلاسم-، هي جملة جعلت الطبيب يضرب أخماسا بأسداس عن معنى الشهادة لدى هؤلاء المسؤولين، وهل اللغة التي يدرس بها تغير في العلم شيئا، الحقيقة أن دراسة الطب بالعربية أو الإنجليزية أو الاسبانية لا تغير شيئا في المسلمات، ومع ذلك وإن كان الأمر صادما، غير أنه لم يثبط عزيمته، بل جعلها تكبر وتتطور وتجعل منه شخصا آخر يسعى لأن يدرس باللغة التي لا تصنع « الحجابات »، لغة موليير، فقد حصل على منحة أخرى سافر بها إلى فرنسا، هناك، حيث نافس الفرنسيين، وهناك، حيث اكتشف احتقارهم لكل ما هو جزائري، فهم لن ينسوا يوما أنهم كانوا مستعمرا ولن يتخلوا عن الفكر الكولونيالي، وما عايشه الطبيب العام الباحث عن التخصص شاهد على هذا الفكر، فقد كان الفرنسيون أثناء دروس التدريب يقدمون أبناءهم من الطلبة على باقي الطلبة، حتى أن الشهادة التي تمنح لغير الفرنسيين والجزائريين غير معترف بها.. عبد الرحمان تحمل تلك النظرة الدونية لمدة شهرين فقط، انتهيا بأن سافر إلى كندا وهناك
من طبيب إلى بطال ومن بطال إلى قدوة للأمريكان
كان ذلك عام 1990، دكتور اليوم لم يكن يعرف شروط الالتحاق بالجامعات الأمريكية ولا حتى كيف يمارس الطب هناك، وكانت الصدمة عندما علم بأنه لا يمكن لأي طبيب مهما كانت جنسيته حتى الأمريكان أن يمارسوا الطب أو يعالجوا أي مواطن أمريكي ما لم يدرسوا في الجامعات الأمريكية، هنا رفع عبد الرحمان تحديا آخر، هو دراسة الطب بالإنجليزية، اجتاز ثلاثة امتحانات صعبة، ونالها بامتياز، ومن هنا بدأت رحلة النجاح فالتحق بجامعة سانت روزفلت بكولومبيا، أين درس الأبحاث في مركز الأبحاث في البدانة، وقدم عدة بحوث وتلقى وعلى العكس من فرنسا المساعدة من الجميع، فالمسؤول الأمريكي يهمه أن يجد الحل لمعضلات بلاده ولا يهمه من يقدمها ولا عقدة له في أن يقدمها جزائري مسلم، أم شخص آخر، بهذا الفكر ارتقت أمريكا، ولأنه قدم الكثير تمت ترقيته إلى مدير لمركز الأبحاث..
هذا المنصب لم يغتر به عبد الرحمان الذي تقدم لمسابقة أخرى قصد دخول كلية الطب بنيويورك، وتخرج بعد ثلاث سنوات، ثم تخصص في الطب الباطني بجامعة بنسلفانيا، وهنا حدث الاستثناء، ففي أمريكا إما أن يكون الطبيب طبيبا إكلينيكيا أو يكون طبيبا « استيوباثي »، ولا يمكن أن يحوز الطبيب شهادتين اثنتين في التخصصين، لأن الأمر صعب جدا، لكن الجزائري عبد الرحمان تخرج من الجامعة وهو يحوز الشهادتين، واحتارت الجامعة في التعامل معه، والطريقة التي تمنحه بها الشهادة، وأي شهادة ستمنحه، وتطلب الأمر اجتماعا طارئا أعلنت نتائجه بعد أسبوع، فقد تقرر خلق شهادة جديدة الأولى من نوعها في تاريخ المعهد، تحمل التخصصين، وحصل بها المعني على جائزة الأسد، وانصرف بعدها للبحث في دراسات حول سرطان البنكرياس..
بوتفليقة طلب منه العودة إلى الجزائر « دكتورا ».. والمير منحه شهادة بطال
تحول محوري آخر، كان في حياة الباحث الجزائري عام 2004، عندما زار الرئيس بوتفليقة أمريكا، وهناك طلب من الأدمغة المهاجرة العودة إلى البلاد لبنائها بسواعدهم، وتكفل السفير بالاتصال بهذه الأدمغة وضمنهم كان عبد الرحمان، وتم الالتحاق بالجزائر، وكانت الفكرة فتح مركز أبحاث رفقة صديق آخر جزائري، ومن هنا بدأت المتاعب، فمن إدارة إلى إدارة، ومن مسؤول إلى آخر، واستمر الوضع ثلاث سنوات.
وكان من بين المسؤولين الذين استقبلوا عبد الرحمان، والي سطيف آنذاك وهو وزير الداخلية الحالي نور الدين بدوي، الوالي أبدى استعداده لمساعدته وحاول تسهيل الأمور له، لكن القرار كان على أعلى مستوى، وتحول طلب وثيقة واحدة يجر معه 20 وثيقة أخرى، وانطلق المشوار من وزارة إلى وزارة فقط من أجل الحصول على مطابقة للشهادة الأمريكية، وبعد إنهاء الملف، وتحويله إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أخبره مسؤول في الوزارة أن الإجابة ستكون في غضون 5 إلى 10 سنوات، وبما أن الأمر غير ممكن، لأن الانتظار يعني التخلف عن التطور الذي يشهده العلم يوميا، طلب الطبيب لقاء مع الوزير آنذاك وتكفل بالمقابلة رئيس الديوان الذي اقترح عليه وبالشهادات التي حصل عليها التدريس بالجامعة مقابل 3.5 مليون سنتيم، وبعد أشهر قليلة اتصلت السلطات السعودية به وبزميله واقترحت عليهما الالتحاق للعمل على مستواها نظير رواتب خيالية فاقت 100 مليون سنتيم وامتيازات، فاستجاب صديقه، ورفض هو، لأن هدفه كان البقاء بالجزائر.
مد وجزر، وذهاب وإياب، ومكوث تحت أشعة الشمس لساعات أمام المديريات، ولعل أهم ما يذكر عبد الرحمان هو تعرضه للتعنيف عندما حاول الحصول على نسخة من شهادة البكالوريا.. مرت ثلاث سنوات والطبيب بالجزائر والحلم يراوده لإعادة الجميل للبلاد وتأسيس عيادة نصف نفعية تداوي بالمجان المعوزين، ويدفع الميسورون حقوق العلاج، وتقدم تمارين للطلبة وتكوين المختصين بالتوأمة مع مراكز أمريكية أكدت استعدادها للمساعدة.. ولكن.. تحول الطبيب المختص النابغة الذي وجد كل الظروف مهيأة للإبداع في بلد الغير، إلى بطال ومحتاج في هذه الفترة، ونفدت كل أمواله، واضطر لبيع سيارته قبل أن يصاب بالكآبة ويلازم المنزل، ويتكفل والده المسن بمصاريفه.. وجاء القرار عام 2007 بالعودة إلى أمريكا، فكل الطرق مسدودة وكل الآفاق مظلمة.. تنقل الطالب السابق إلى الجامعة للحصول على شهادته ففوجئ برد الإدارة، فقد أخبروه بأنه غير مسجل وغير موجود أصلا في قائمة الطلبة، فجع عبد الرحمان ولم تستوعبه الأرض وطلب مقابلة رئيس المصلحة، وعاد الأمل بعد أن تعرف عليه رئيس المصلحة فهو زميل سابق في الجامعة ويعلم بأنه كان نابغة، هذا الأخير لم يشف غليله ولم يمنحه الشهادة، لأنها وبساطة حرقت مع ملفات العشرات من قبل الجماعات الإرهابية سنوات التسعينيات..
وبدأ بصيص الأمل يظهر عندما تنبه عبد الرحمان لوجود شهادة مماثلة على مستوى الجامعة السورية وتنقل إلى هناك، وكان طقم الدراسة الذي ستر جسده سنوات ملجأ للحصول على سعر التذكرة، فباعه وطار إلى دمشق، ومن ثمة إلى أمريكا، وهناك وجد نفسه قد تراجع لسنوات عما تطور فيه أقرانه.. وتكفلت السلطات الأمريكية بدفع تذكرة السفر وجهزت له سيارة فاخرة أوصلته إلى أفخم الفنادق، فأمريكا يسعدها أن يعود إليها « عقل مفكر » دفعت حقوق دراسته في التخصص أكثر من ملياري سنتيم كدين، لأن المجان يعني أن تبقى بأمريكا، وعبد الرحمان اختار الجزائر، واختار أن يبقى الدين على عاتقه وفقا للقوانين الأمريكية لأجل 30 سنة.. بدأت العروض تتهاطل فقط من أجل إمضاء عقد بالانتماء لأية مؤسسة استشفائية.. وتم توقيع عقد مع « مستشفى مونتن فيستا ميركال سنتر » أريزونا، واشتغل بعدها في مستشفيين آخرين.. واشتغل طبيبا وباحثا وأستاذا بجامعة « نيدواسترن »، ومدير البرامج العلمية لتكوين الأطباء في الأمراض الباطنية.. هذا الأخير هو البرنامج الذي حلم بتحقيقه على أرض الجزائر.. ويشرف حاليا على الأطباء المقيمين ومديرا طبيا لشركة الأطباء الاستشفائيين..
لم تتوقف الشهادات عن معانقة الجزائري المسلم، وكان التزامه وحسن تعامله وتربيته وأخلاقه سلما لشهادة أخرى، فقد فاجأ الطاقم الطبي بالمستشفى الذي يشتغل به شخصه بإعلان اجتماع ضروري حضره 500 طبيب ومسؤول، أطلقوا فيه سبر آراء لاختيار أحسن طبيب من حيث الهدوء، الصبر، الحوار، السلوك والمعاملة، وتقييم آخر يقدمه المريض، واختير شهر ماي 2015 لتقلد الوسام، وحصل على « شهادة شرف » من رئيس جامعة نيويورك وهي أعلى درجة تمنحها الجامعة الأمريكية، وحصل على ثماني جوائز مختلفة.. تحول التفكير الأمريكي حيال الجزائر فبعد أن كانوا يعتقدون أن الجزائر هي نيجيريا « الجيريا.. نيجيريا » بالنظر إلى التشابه في الاسم، أصبح اسم الجزائر مقترنا بالإرهاب، وتحول فيما بعد وفي الوسط العلمي إلى جزائر الشهداء.. عندما كان عبد الرحمان يحصل على الجوائز ويخرج من قاعة التكريم يجد الأمريكان منكبون يبحثون عن سر هذا البلد وتاريخه وأصبح الحديث فيما بعد عن جزائر الأمير عبد القادر.. ويستذكر ما قاله له طلبته « نعم، عرفنا الجزائر، نعم هي ذلك البلد الذي ركل فرنسا بعد 130 سنة من الاستعمار.. هي جزائر الشهداء، نعم جزائر مليون ونصف مليون شهيد.. ».. ما يحز في نفسه هو أنه عندما عاد إلى الجزائر تم تكريمه بشهادة كتب عليها « المهنة: بطال لا يمارس أي عمل بأجر ».. بعد أن حصل على شهادتي دكتوراه ودرس لمدة 26 سنة دون توقف ومارس التدريس لـ14 سنة..
نصائح لشباب الجزائر.. طلقوا الفرنسية وثقوا بأنفسكم فأنتم قادرون
عبد الرحمان الذي زار « الشروق » كعقل مهاجر، بكى بحرقة وهو يروي لنا مساره المهني، وكيف أنه درس على يدي محمد وعلي ويداوي اليوم « ماتيو وكريستين »، ويدرس أبناءهم، يقول أنه لم يختر أمريكا فخرا، ولكن تم التخلي عنه، اختار رسائل واضحة ومحددة ليوجهها للشباب الجزائري، أولاها أن الجزائريين إن وضعوا في نفس الظروف التي يوضع فيها الأمريكان يمكنهم أن ينجحوا، بل أن يتفوقوا، الحجاب ليس عقدة في أمريكا، وليس معيارا، والفيصل هو كيف تقدم مهامك.. يذكر أنه عندما تقدم لأحد المناصب تم طرح سؤال عنه هو: من المسؤول الأول عن المصحة؟ فقال إنه المدير، فقيل له بأنه المريض ويليه عائلته، وتم تذكيره بأن المسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وأنه في الطب كل خطأ يتحمله الطبيب ويحاسب عليه.. وهنا المهم هو أن يتحمل كل مسؤول مسؤولياته كاملة مهما كان منصبه..
يقول أن الجزائر تمتلك من الكفاءات الكثير ولكنها مكبلة، وطالب بضرورة الاهتمام بالأطباء والممرضين والمستشفيات والتركيز على تطوير الأبحاث.. ويذكر مثالا عن الإهمال الذي تعانيه الصحة أنه زار إحدى المؤسسات الاستشفائية فوجد قائمة عن الأمور التي تصرف فيها الميزانية، وكان كل شيء حاضرا عدا البحوث التي نالت نسبة صفر في المائة من الميزانية..
نصيحة أخرى، يعتقد الطبيب أنها مهمة.. هي عدم التبعية لفرنسا والتحول إلى دراسة الانجليزية وتعليمها، فهي لغة العلم والتخلي عن الفرنسية سيجعل الجزائر تتخلى عن تبعيتها للمستعمر القديم.. « الثقة هي ضرورة، أيضا فلا أحد أفضل منك »، يقول أنه عندما سافر إلى أمريكا فكر في أنه قد يفشل، ثم فكر وقال أنه يجب أن يبحث عن أمور تجعله يتقدم ووجد أن معدل ذكائه يعادل معدل ذكاء الأمريكيين بشكل طبيعي، ثم فكر في الوقت فوجد انه يمكنه الدراسة أيام الراحة والأمريكان لا يمكن أن يفعلوا ذلك، لأن العطلة مقدسة لديهم.. ومن هنا بدأ التفوق.. واليوم يحضر لبحوث في اللبتينغ « دواء تخفيض السمنة »، النلوكسول لعلاج داء كرون، سرطان البنكرياس، بحث لزرع الخلايا الجذعية، وآخر لإعادة النبض للقلب، وآخر لمساعدة المريض في الإنعاش، وهذا الأخير يتم بالتعاون بين أمريكا واليابان..
رسالة الطبيب للسلطات الجزائرية، هو فتح الباب أمام الكفاءات الجزائرية المهاجرة للعودة إلى الجزائر.. فهو يعتبر نفسه فاشلا، لأن والديه وأقاربه وأبناء وطنه لم يستفيدوا من تقدمه في العلم.. ويقترح تخصيص مكتب لاستقبال هذه الكفاءات وتسهيل التعامل معها وإجراءات التحاقها..